أخبار وطنية الأستاذ سليم اللغماني: القانون الدولي عادل في أحكامه المادية لكن تطبيقه رهين موازين القوى (محكمة العدل والمحكمة الجنائيّة نموذجا)
نظمت نقابة الصحفيين التونسيين يومي 8 و9 نوفمبر 2024 فعاليات إحياء اليوم العالمي لإنهاء الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين، بالشراكة مع عدد من المنظمات الوطنية والدولية وبحضور شخصيات بارزة على المستوى الوطني.
وخلص المشاركون في هذه الفعاليات إلى مجموعة من التوصيات من أجل مواجهة هذه الجرائم والتصدي لها، بينها وجوب تركيز آلية وطنية دائمة ومستقلة لرصد الاعتداءات المسلطة على حريّة الصحافة وحريّة التعبير، وإيقاف إحالة الصحفيين خارج إطار القانون المنظم للمهنة أي طبقا للمرسومين 115 و116 اللذان يتعلّقان بحرية الصحافة والطباعة والنشر.
وإلى جانب المداخلات المتعلّقة بمسألة الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين، سجّل أستاذ القانون العام والخبير في القانون الدولي سليم اللغماني حضوره بمداخلة تعلّقت بحدود الآليات الدولية في مكافحة الإفلات من العقاب (محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائيّة الدولية أنموذجا) .
وفي منطلق مداخلته التي مهّدها بتقديم للهيئتين القضائيتين الدوليتين المجسّدتين في محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائيّة الدولية، أبرز الأستاذ سليم اللغماني أن هاتين المحكمتين هما هيئتان قضائيتان دوليتان تمّ وضعهما بمقتضى معاهدتين دوليتين، حيث وقع تأسيس الأولى بمقتضى ميثاق الأمم المتحدة الذي وقع إمضاؤه بتاريخ 25 جوان 1945 ودخل حيز النفاذ في 24 أكتوبر 1945. علما وأنّ النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية يعتبر جزءا لا يتجزأ من ميثاق الامم المتحدة وله نفس قوته القانونية وعدد الاطراف المنخرطة فيه اليوم يقدّر بـ 193 دولة.
أمّا بشأن المحكمة الجنائية الدولية، أشار اللغماني إلى أنّه وقع إمضاء نظامها الأساسي بروما بتاريخ 17 جويلية 1998 ودخل حيز النفاذ في 01 جويلية 2002 مؤكدا أن انضمام تونس إليه كان بتاريخ 24 جوان 2011 مع التنويه بأنّ عدد الاطراف في النظام الاساسي لروما هو 125 دولة آخرها أكرانيا التي انظمت إليه في 25 أكتوبر من هذه السنة 2024 .
ويقرّ أستاذ القانون العام في ذات مداخلته أنّ لمحكمة العدل الدولية وظيفة تنازعية وأخرى استشارية، فهي تفصل في النزاعات التي تعرضها عليها الدول بمقتضى قرارات ملزمة لأطراف النزاع كما تبدي رأيها الاستشاري في المسائل القانونية التي تعرضها عليها الجمعية العامة، مجلس الامن أو الامم المتحدة أو هيئات منظمة الامم المتحدة وكذلك الوكالات المتخصصة المرتبطة بها التي اذنت لها الجمعية العامة بطلب رأي محكمة العدل الدولية.
ويضيف "ويعني ما سبق أن الوظيفة التنازعية لمحكمة العدل الدولية مفتوحة للدول فحسب أمّا الوظيفة الاستشارية مفتوحة للهيئات والمنظمات الدولية وليست مخولة للدول"، مشيرا إلى أنّ آخر رأي استشاري صادر عن محكمة العدل الدولية بتاريخ 19 جويلية 2024 كان عنوانه " التبعات القانونية لسياسات وممارسات إسرائيل في الأرض الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية"، حيث رأت فيه المحكمة أنّ على اسرائيل إنهاء الاحتلال في أقرب الآجال وبناء على هذا القرار اجتمعت الجمعية العامة في ما بعد لتحدد هذا الأجل بسنة مشدّدة على وجوب تعويض الكيان المحتل لكل الاضرار الناتجة عنه في حق الاشخاص الطبيعيين والمعنويين الفلسطنيين وأنه على كل الدول عدم الاعتراف بالأمر الواقع وعدم المساعدة على الابقاء عليه.
عدد القضايا المرفوعة ضدّ الكيان المحتل أمام محكمة العدل الدولية
وبشأن القضايا المرفوعة ضدّ الكيان المحتّل، يؤكد اللغماني وجود 3 قضايا ضد الكيان أو من يسانده أمام محكمة العدل الدولية بينها دعوى جنوب إفريقيا ضد اسرائيل المتعلقة بتطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في قطاع غزة وكانت قد قدمتها بتاريخ 29 ديسمبر سنة 2023 وقبلها دعوة دولة فلسطين ضد الولايات المتحدة الامريكية متعلقة بنقل سفارة الاخيرة الى القدس قدمتها بتاريخ 28 سبتمبر 2018.
وأيضا دعوى دولة نيكاراغوا ضد ألمانيا المتعلقة بخرق التزامات دولية متعلقة بالأرض الفلسطينية قدمتها بتاريخ 1 مارس 2024 وهي دعوى الهدف منها تصريح المحكمة بأن ألمانيا التي تمد الكيان بالسلاح هي شريك في الابادة الجماعية.
أما في ما يخص المحكمة الجنائية الدولية، يضيف الاستاذ سليم اللغماني انه وخلافا لمحكمة العدل الدولية فإن المحكمة الجنائية الدولية لا تقاضي الا الأشخاص الطبيعيين والأفراد الذين وقع تتبعهم بسبب شبهة ارتكابهم لجريمة أو أكثر من بين 4 جرائم تدخل في اختصاص المحكمة وهي جريمة الإبادة الجماعية التي يتمّ وصفها بـ"جريمة الجرائم"، والجرائم ضد الانسانية وجريمة الحرب وجريمة العدوان.
وفي صورة الحكم بالادانة تصدر المحكمة احدى العقوبات التالية وفقا لمنطوق الفصل 77 من نظامها الاساسي: - السجن لعدد محدد من السنوات لفترة أقصاها 30 سنة ، السجن المؤبد عندما تكون العقوبة مبررة بالخطورة البالغة للجريمة وبالظروف الخاصة للشخص المدان. وبالإضافة الى السجن يمكن للمحكمة ان تأمر بفرض غرامة وأن تأمر بمصادرة العائدات و الممتلكات والأصول المتأتية بصورة مباشرة أو غير مباشرة من الجريمة المقترفة .
ويشير سليم اللغماني الى ان دولة فلسطين عرضت على أنظار المحكمة الجنائية الدولية بتاريخ 1 جانفي 2015 الوضعية التي تعيشها في أرضها وطلبت منها التحقيق في الجرائم المرتكبة عليها منذ 03 جوان 2014 .
ويبرز في ذات مداخلته أنه "وبتاريخ 5 فيفري 2021 اي بعد مضي 6 سنوات كاملة، قررت الدائرة التمهيدية للمحكمة انه بإمكان المحكمة ممارسة اختصاصها الجزائي في الوضعية في غزة والضفة والقدس الشرقية. أمّا بتاريخ 03 مارس 2021 أعلن المدعي العام فتح تحقيق في الوضعية في دولة فلسطين، وآخر التطورات في القضية أنه بتاريخ 20 ماي 2024 طلب المدعي العام من الدائرة التمهيدية الاولى إصدار أمر بإيقاف كل من يحيى السنوار، محمد دياب إبراهيم المصري وإسماعيل هنية وهم اليوم من عداد الشهداء. في المقابل فإنه لم يتم اصدار اي أمر بخصوص بنيامين ناتنياهو و يوآف غالانت وزير دفاع الكيان ولا نزال في انتظار قرار الدائرة التمهيدة في هذا الصدد ".
آليات الإفلات من العقاب...
وعودة إلى الحديث عن حدود الآليات المتعلقة بمكافحة الإفلات من العقاب، يقول الاستاذ اللغماني إن عبارة الإفلات من العقاب غير دقيقة لسببين اثنين أولهما يتعلق بمحكمة العدل الدولية والثاني بالمحكمة الجنائية. ففي ما يخص محكمة العدل الدولية يجدد التأكيد بأنّها ليست محكمة جزائية وبالتالي فهي لا تقرّر عقوبات بالمعنى الدقيق للكلمة بل انها تتولى الفصل في النزاعات التي تعرضها عليها الدول طبقا لأحكام القانون الدولي العام.
ويضيف بالقول "وإن اعتبرت المحكمة أن ممارسات دولة طرف في نزاع معروض عليها بما في ذلك نصوصها القانونية حتى الدستورية منها مخالفة للقانون الدولي، فهي أولا تحكم بعدم شرعية تلك الممارسات والنصوص وتأمر بالكف عن تلك الممارسات وإلغاء تلك النصوص وإن اعتبرت أن اللاشرعية خطرة وتمثلت في ما يسمى بانتهاك قاعدة أو قواعد آمرة من قواعد القانون الدولي العام فهي تأمر كل الدول بعدم الاعتراف بنتائج تلك الممارسات والنصوص وبعدم مساعدة الدولة المخالفة على الإبقاء على الوضع الناتج عن تلك الممارسات والنصوص وهو ما صرحت به المحكمة في الرأي الاستشاري الذي يهم فلسطين".
ويشدّد المتحدّث على أنّ جزاء عدم الشرعية يتمثّل في تفعيل مسؤولية الدولة المخالفة وذلك بإعادة الأمور إلى ما كانت عليه وإعادة الأرض إلى أصحابها، وبالتعويض عن الضرر الناتج للأشخاص الطبيعية والذوات المعنوية عن انتهاك الشرعية. وهذا يعني أن آثار عدم الشرعية وتبعات مخالفة الأحكام الدولية ليست جزائية بل هي أقرب إلى المسؤولية المدنية إذ أنه ليس هنالك مسؤولية جزائية للدول بصفتها ذوات معنوية في القانون الدولي.
" بموجب قرينة البراءة لا يمكن التحدّث عن الإفلات من العقاب إلّا إذا صدر حكم بالإدانة وتمكّن المدان من الإفلات من العقاب"
أما في ما يخص المحكمة الجنائية الدولية، فيقر اللغماني أنه لا بدّ من التمييز بين الإفلات من العقاب والإفلات من المحاسبة أو التتبعات إذ أنه بموجب قرينة البراءة لا يمكن التحدّث عن الإفلات من العقاب إلّا إذا صدر حكم بالإدانة وتمكّن المدان من الإفلات من العقاب.
ويؤكد الاستاذ سليم اللغماني هنا أن "إمكانية الإفلات من المسؤولية في ما يخص محكمة العدل الدولية واردة على مستويين الأول هو أن مبدأ سيادة الدول يمنع مقاضاتها دون رضاها وقبولها اختصاص المحكمة، ونحن هنا بصدد الاختصاص التنازعي للمحكمة وفي صورة قبول الدولة لاختصاص المحكمة وصدور قرار يدينها فهي ملزمة قانونا بتطبيقها لكن بإمكانها عدم الإذعان وليس لمحكمة العدل الدولية جهاز يمكنها من فرض قرارها على الدول المستعصية".
ويستنتج بالتالي أنّ السبيل الوحيد المتاح للدولة المنتفعة بقرار المحكمة والتي ليست لها القوة الكافية لفرض تطبيقه، هو التوجه إلى مجلس الأمن طبقا للفصل 94 من النظام الاساسي الذي ينص على ما يلي "إذا امتنع أحد المتقاضين في قضية ما عن القيام بما يفرضه عليه حكم تصدره المحكمة فللطرف الآخر أن يلجأ إلى مجلس الأمن. ولهذا المجلس إذا رأى ضرورة في ذلك أن يقدّم توصياته أو يصدر قرارا بالتدابير التي يجب اتخاذها لتنفيذ هذا الحكم".
وعودة إلى مسألة الإفلات من التتبعات أو العقوبات في ما يخص المحكمة الجنائية الدولية، أفاد اللغماني ان الافلات من التتبعات ممكن بمقتضى نص النظام الأساسي لروما نفسه إذ أن فصله السادس عشر نصّ على ما يلي "لا يجوز البدء أو المضي في تحقيق أو مقاضاة بموجب هذا النظام الأساسي لمدة 12 شهرا بناء على طلب من مجلس الأمن إلى المحكمة بهذا المعنى يتضمنه قرار يصدر عن المجلس بموجب الباب السابع من ميثاق الأمم المتحدة ويجوز لمجلس الامن تجديد هذا الطلب بالشروط ذاتها."
المحكمة الجنائية الدولية رهينة إرادة الدول
والإفلات من التتبعات ممكن ايضا حسب قراءة الاستاذ اللغماني وفقا لافتقار المحكمة الجنائية الدولية بحكم مبدأ السيادة إلى جهاز يمكنها من إيقاف المشبوه فيهم وتسليمهم الى المحكمة، وهي في ذلك رهينة إرادة الدول الأطراف على حدّ تعبيره. وفي تقديم لأمثلة عن ذلك يقول اللغماني "لقد رأينا انّ منهم من رفض إيقاف وتسليم متهمين بجرائم دولية رغم ان واجب التعاون مع المحكمة محمول عليهم وقد وقع هذا في قضية بوتين وايضا في ما يخص عمر البشير... وتجدر الاشارة الى ان القانون الذي أصدرته سنة 2003 الولايات المتحدة الامريكية "American service members protection act" يخول لرئيس الجمهورية الامريكي استعمال كل الوسائل بما في ذلك القوة المسلّحة لتحرير اي عضو من القوات المسلحة الامريكية وقع ايقافه او اعتقاله بطلب من المحكمة الجنائية الدولية.
ويلاحظ الأستاذ سليم اللغماني في ذات السياق أنه بمقتضى الفصل 87 من النظام الأساسي يمكن للمحكمة أن تلجأ إلى مجلس الأمن مع نفس الظروف التي تم بيانها. أما اذا تمكنت المحكمة رغم كل هذه العقبات من التتبع وأصدرت أحكاما بالإدانة، فإنّ تطبيق هذه الأحكام يبقى رهين إرادة الدول إذ أن الأحكام السجنية التي تصدرها المحكمة تنفّذ في دولة تعيّنها المحكمة من قائمة الدول التي تكون قد أبدت للمحكمة استعدادها لقبول الأشخاص المحكوم عليهم.
أما في ما يخص تنفيذ تدابير التغريم والمصادرة فإن الدول الأطراف هي التي تنفذها طبقا لإجراءات قانونها الوطني وتحوّل إلى المحكمة ممتلكات أو عائدات بيع العقارات التي تحصل عليها.
وخلص الاستاذ سليم اللغماني مداخلته بالقول، الى ان القانون الدولي عادل في احكامه المادية لكن تطبيقه رهين موازين القوى.
منــارة تليـــجاني